كليلة ودمنة ( الجزء9)
صفحة 1 من اصل 1
كليلة ودمنة ( الجزء9)
فقال له بروزيه: إني كنت هيأت كلاماً كثيراً، وشعبت له شعوباً؛ وأنشأت له أصولاً وطرقاً؛ فلما انتهيت إلى ما بدأتني به من إطلاعك على أمري والذي قدمت له، وألقيته على من ذات نفسك، ورغبتك فيما ألقيت من القول، اكتفيت باليسير من الخطاب معك، وعرفت الكبير من أموري بالصغير من الكلام، واقتصرت به معك على الإيجاز. ورأيت من إسعافك إياي بحاجتي ما دلني على كرمك وحسن وفائك: فإن الكلام إذا ألقي إلى الفيلسوف، والسر إذا استودع إلى اللبيب الحافظ، فقد حصن وبلغ به نهاية أمل صاحبه، كما يحصن الشيء النفيس في القلاع الحصينة. قال له الهندي: لا شيء أفضل من المودة. ومن خلصت مودته كان أهلاً أن يخلطه الرجل بنفسه، ولا يدخر عنه شيئاً، ولا يكتمه سراً: فإن حفظ السر رأس الأدب. فإذا كان السر عند الأمين الكتوم فقد احترز من التضييع؛ مع أنه خليق ألا يتكلم به؛ ولا يتم سرٌ ين اثنين قد علماه وتفاوضاه. فإذا تكلم بالسر اثنان فلا بد من ثالث من جهة أحدهما؛ فإذا صار إلى الثلاثة فقد شاع وذاع، حتى لا يستطيع صاحبه أن يجحده ويكابر عنه؛ كالغيم إذا كان متقطعاً في السماء فقال قائل: هذا غيمٌ متقطعٌ، لا يقدر أحدٌ على تكذيبه. وأنا قد يداخلني من مودتك وخلطتك سرورٌ لا يدله شيءٌ. وهذا الأمر الذي تطلبه مني أعلم أنه من الأسرار التي لا تكتم؛ فلا بد أن يفشو ويظهر، حتى يتحدث به الناس. فإذا فشا فقد سعيت في هلاكي هلاكاً لا أقدر على الفداء منه بالمال وإن كثر: لأن ملكنا فظٌ غليظُ، يعاقب على الذنب الصغير أشد العقاب؛ فكيف مثل هذا الذنب العظيم? وإذا حملتني المودة التي بين وبينك فأسعفتك بحاجتك لم يرد عقابه عني شيءٌ. قال بروزيه: إن العلماء قد مدحت الصديق إذا كتم سر صديقه وأعانه على الفوز. وهذا الأمر الذي قدمت له، لمثلك ذخرته، وبك أرجو بلوغه؛ وأنا واثقٌ بكرم طباعك ووفور عقلك، وأعلم أنك لا تخشى مني ولا تخاف أن أبديه؛ بل تخشى أهل بيتك الطائفين بك وبالملك أن يسعوا بك إليه. وأنا أرجو ألا يشيع شيءٌ من هذا الأمر: لأني أنا ظاعنٌ وأنت مقيمٌ، وما أقمت قلا ثالث بيننا. فتعاهدا على هذا جميعاً. وكان الهندي خازن الملك، وبيده مفاتيح خزائنه. فأجابه إلى ذلك الكتاب وغلى غيره من الكتب. فأكب على تفسيره ونقله من اللسان الهندي إلى اللسان الفارسي؛ وأتعب نفسه، وانسب بدنه ليلاً ونهاراً. وهو مع ذلك وجلٌ وفزعٌ من ملك الهند؛ خائفٌ على نفسه من أن يذكر الملك الكتاب في وقتٍ لا يصادفه في خزائنه.
فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغيره مما أراد من سائر الكتب. كتب إلى أنوشروان يعلمه بذلك. فلما وصل إليه الكتاب، سر بذلك سروراً شديداً، ثم تخوف معاجلة المقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب إلى بروزيه يأمره بتعجيل القدوم. فسار بروزيه متوجهاً نحو كسرى. فلما رأى الملك ا قد مسه من الشحوب والتعب والنصب، قال له: أيها العبد الناصح الذي كان يأكل ثمرة ما قد غرس، أبشر وقر عيناً: فإني مشرفك وبالغٌ بك أفضل درجةٍ. وأمره أن يريح بدنه سبعة أيام. فلما كان اليوم الثامن، أمر الملك أن يجتمع إليه الأمراء والعلماء. فلما اجتمعوا، آمر بروزيه بالحضور. فحضر ومعه الكتب؛ ففتحها وقرأها على من حضر من أهل المملكة. فلما سمعوا ما فيها من العلم فرحواً فرحاً شديداً؛ وشكروا لله على ما رزقهم، ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر الملك أن تفتح لبروزيه خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن يأخذ من الخزائن ما شاء من مالٍ أو كسوةٍ؛ وقال: يا بروزيه إني قد أمرت أن تجلس على مثل سريري هذا، وتلبس تاجاً، وتترأس على جميع الأشراف. فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه؛ فإني بحمد الله مستغنٍ عن المال بما رزقني الله على بد الملك السعيد الجد، العظم الملك؛ ولا حاجة لي بالمال؛ لكن لما كلفني الملك ذلك وعلمت أنه يسره، أنا أمضي إلى الخزائن فآخذ منها طلباً لمرضاته وامتثالاً لأمره. ثم قصد خزانة الثياب فأخذ منها تختاً من طرائف خراسان من ملابس الملوك. فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال: أكرم الله تعالى الملك ومد في عمره أبداً. لابد أن الإنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعباً ومشقةً فقد كان فيهما رضا الملك. وأما أنا فما لقيته من عناءٍ وتعبٍ ومشقةٍ، لما أعلم أن لكم فيه الشرف يأهل هذا البيت! فإن لم أزل إلى هذا اليوم تابعاً رضاكم، أرى العسير فيه يسيراً. والشاق هيناً، والنصب والأذى سروراً ولذةً: لما أعلم أن لكم فيه رضاً وقربة عندكم. ولكني أسألك أيها الملك حاجة تسعفني بها، وتعطيني فيها سؤلي: فإن حاجتي يسيرةٌ، وفي قضائها فائدةٌ كثيرةٌ. قال أنوشروان: قل فكل حاجةٍ لك من قبلنا مقضيةٌ، ولم نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وتحتشم؛ فإن الأمور كلها مبذولة لك. قال بروزيه: أيها الملك لا تنظر إلى عنائي في رضاك وانكماشي في طاعتك؛ فإنما أنا عبدك يلزمني بذل مهجتي في رضاك؛ ولو لم تجزني لم يكن ذلك عندي عظيماً ولا واجباً على الملك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إلى مجازاتي؛ وخصني وأهي بيتي بعلو المرتبة ورفع الدرجة؛ حتى لو قدر أن يجمع لنا بين شرف الدنيا والآخرة لفعل. فجزاه الله عنا أفضل الجزاء.
قال أنوشروان: اذكر حاجتك، فعلى ما يسرك. فقال بروزيه: حاجتي أن يأمر الملك، أعلاه الله تعالى، وزيره بزرجمهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره، ويجمع رأيه، ويجهد طاقته، ويفرغ قلبه في نظم تأليف كلامٍ متقنٍ محكمٍ؛ ويجعله باباً يذكر فيه أمري ويصف حالي؛ ولا يدع من المبالغة في ذلك أقصى ما يقدر عليه. ويأمره إذا استتمه أن يجعله أول الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور: فإن الملك إذا فعل ذلك فقد بلغ بي وبأهلي غايةً الشرف وأعلى المراتب؛ وأبقى لنا ما لا يزال ذكره باقياً على الأبد حيثما قرئ هذا الكتاب
فلما فرغ من انتساخ الكتاب وغيره مما أراد من سائر الكتب. كتب إلى أنوشروان يعلمه بذلك. فلما وصل إليه الكتاب، سر بذلك سروراً شديداً، ثم تخوف معاجلة المقادير أن تنغص عليه الفرحة؛ فكتب إلى بروزيه يأمره بتعجيل القدوم. فسار بروزيه متوجهاً نحو كسرى. فلما رأى الملك ا قد مسه من الشحوب والتعب والنصب، قال له: أيها العبد الناصح الذي كان يأكل ثمرة ما قد غرس، أبشر وقر عيناً: فإني مشرفك وبالغٌ بك أفضل درجةٍ. وأمره أن يريح بدنه سبعة أيام. فلما كان اليوم الثامن، أمر الملك أن يجتمع إليه الأمراء والعلماء. فلما اجتمعوا، آمر بروزيه بالحضور. فحضر ومعه الكتب؛ ففتحها وقرأها على من حضر من أهل المملكة. فلما سمعوا ما فيها من العلم فرحواً فرحاً شديداً؛ وشكروا لله على ما رزقهم، ومدحوا بروزيه وأثنوا عليه؛ وأمر الملك أن تفتح لبروزيه خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؛ وأمره أن يأخذ من الخزائن ما شاء من مالٍ أو كسوةٍ؛ وقال: يا بروزيه إني قد أمرت أن تجلس على مثل سريري هذا، وتلبس تاجاً، وتترأس على جميع الأشراف. فسجد بروزيه للملك ودعا له وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه؛ فإني بحمد الله مستغنٍ عن المال بما رزقني الله على بد الملك السعيد الجد، العظم الملك؛ ولا حاجة لي بالمال؛ لكن لما كلفني الملك ذلك وعلمت أنه يسره، أنا أمضي إلى الخزائن فآخذ منها طلباً لمرضاته وامتثالاً لأمره. ثم قصد خزانة الثياب فأخذ منها تختاً من طرائف خراسان من ملابس الملوك. فلما قبض بروزيه ما اختاره ورضيه من الثياب فال: أكرم الله تعالى الملك ومد في عمره أبداً. لابد أن الإنسان إذا أكرم وجب عليه الشكر؛ وإن كان قد استوجبه تعباً ومشقةً فقد كان فيهما رضا الملك. وأما أنا فما لقيته من عناءٍ وتعبٍ ومشقةٍ، لما أعلم أن لكم فيه الشرف يأهل هذا البيت! فإن لم أزل إلى هذا اليوم تابعاً رضاكم، أرى العسير فيه يسيراً. والشاق هيناً، والنصب والأذى سروراً ولذةً: لما أعلم أن لكم فيه رضاً وقربة عندكم. ولكني أسألك أيها الملك حاجة تسعفني بها، وتعطيني فيها سؤلي: فإن حاجتي يسيرةٌ، وفي قضائها فائدةٌ كثيرةٌ. قال أنوشروان: قل فكل حاجةٍ لك من قبلنا مقضيةٌ، ولم نرد طلبتك؛ فكيف ما سوى ذلك? فقل وتحتشم؛ فإن الأمور كلها مبذولة لك. قال بروزيه: أيها الملك لا تنظر إلى عنائي في رضاك وانكماشي في طاعتك؛ فإنما أنا عبدك يلزمني بذل مهجتي في رضاك؛ ولو لم تجزني لم يكن ذلك عندي عظيماً ولا واجباً على الملك؛ ولكن لكرمه وشرف منصبه عمد إلى مجازاتي؛ وخصني وأهي بيتي بعلو المرتبة ورفع الدرجة؛ حتى لو قدر أن يجمع لنا بين شرف الدنيا والآخرة لفعل. فجزاه الله عنا أفضل الجزاء.
قال أنوشروان: اذكر حاجتك، فعلى ما يسرك. فقال بروزيه: حاجتي أن يأمر الملك، أعلاه الله تعالى، وزيره بزرجمهر بن البختكان؛ ويقسم عليه أن يعمل فكره، ويجمع رأيه، ويجهد طاقته، ويفرغ قلبه في نظم تأليف كلامٍ متقنٍ محكمٍ؛ ويجعله باباً يذكر فيه أمري ويصف حالي؛ ولا يدع من المبالغة في ذلك أقصى ما يقدر عليه. ويأمره إذا استتمه أن يجعله أول الأبواب التي تقرأ قبل باب الأسد والثور: فإن الملك إذا فعل ذلك فقد بلغ بي وبأهلي غايةً الشرف وأعلى المراتب؛ وأبقى لنا ما لا يزال ذكره باقياً على الأبد حيثما قرئ هذا الكتاب
مواضيع مماثلة
» كليلة ودمنة (الجزء5)
» كليلة ودمنة ( الجزء20)
» كليلة ودمنة (الجزء6)
» كليلة ودمنة ( الجزء21)
» كليلة ودمنة ( الجزء7)
» كليلة ودمنة ( الجزء20)
» كليلة ودمنة (الجزء6)
» كليلة ودمنة ( الجزء21)
» كليلة ودمنة ( الجزء7)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى